فصل: الكلام على التابعين رضي الله عنهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


الكلام على التابعين رضي الله عنهم

‏(‏وتابعيه‏)‏ تابعو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ‏(‏السادة‏)‏ من ساد يسود ‏(‏الأخيار‏)‏ على مراتبهم، كما قال الله تعالى فيهم على الترتيب‏:‏ ‏(‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه‏)‏، ‏(‏التوبة 100‏)‏ الآية، وقال تعالى في سورة الجمعة في ذكر التابعين بعد ذكر الصحابة ‏(‏هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏)‏، ‏(‏الجمعة 2‏)‏ هذا في الصحابة، ثم قال في التابعين‏:‏ ‏(‏وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏)‏، ‏(‏الجمعة 3- 4‏)‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال‏:‏ السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أن قد رأينا إخواننا‏.‏ قالوا‏:‏ أولسنا إخوانك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد‏.‏ الحديث‏.‏

وفي المسند، عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وددت أني لقيت إخواني‏.‏ قال‏:‏ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نحن إخوانك‏.‏ قال‏:‏ أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني‏.‏ إسناده حسن، وقد صحح‏.‏

وفيه عن أبي أمامة، وأنس بن مالك رضي الله عنهما قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني‏.‏ سبع مرات‏.‏

وروى الحاكم، وغيره، عن عبد الرحمن بن يزيد قال‏:‏ كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله‏:‏ إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ ‏(‏ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ المفلحون‏)‏، ‏(‏البقرة 1- 5‏)‏، وقال‏:‏ على شرطهما، وبالجملة ‏(‏فكلهم في محكم القرآن *** أثنى عليهم خالق الأكوان‏)‏ في مواضع من كتابه ‏(‏كالفتح‏)‏ أي سورة الفتح من أولها إلى آخرها، ‏(‏و‏)‏ سورة ‏(‏الحديد‏)‏ كقوله تعالى فيها‏:‏ ‏(‏فآمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى‏)‏، ‏(‏الحديد 10‏)‏ الآيات، ‏(‏و‏)‏ سورة ‏(‏القتال‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم‏)‏، ‏(‏محمد 3‏)‏ الآيات، ‏(‏و‏)‏ سورة ‏(‏الحشر‏)‏ إلى آخرها، وقد رتب تعالى فيها الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أردفهم بذكر التابعين، فقال تعالى‏:‏ ‏(‏للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم‏)‏، ‏(‏الحشر 8- 10‏)‏ أخرج الله بهده الآية، وغيرها شاتم الصحابة من جميع الفرق الذين في قلوبهم غل لهم إلى يوم القيامة، ولهذا منعهم كثير من الأئمة الفيء وحرموه عليهم‏.‏

‏(‏و‏)‏ في سورة ‏(‏التوبة‏)‏، ‏(‏و‏)‏ سورة ‏(‏الأنفال‏)‏ بكمالها تارة في الثناء عليهم، وتارة في تحذيرهم من عدوهم، ووصف المشركين والمنافقين بأنواعهم، وسماهم ليحذروهم، وتارة في حثهم على الطاعة والجماعة والجهاد في سبيل الله، والإثخان في الكفار، والثبات لهم عند لقائهم إياهم، وعدم فرارهم منهم، ووعده تعالى إياهم بالنصر على عدوهم، وتارة بتذكيرهم بنعم الله عليهم، وامتنانه عليهم أن هداهم للإسلام، وجنبهم السبل المضلة، وألف بين قلوبهم، وآواهم وأيدهم بنصره بعد إذ كانوا مستضعفين أذلة، وتارة يخبرهم ويهيجهم ويشوقهم بما أعد لهم في الدار الآخرة على قيامهم بطاعته تعالى وطاعة رسوله، وجهادهم بأموالهم في سبيله، وله الحمد والمنة‏.‏

وغير ذلك من سور القرآن وآياته، ‏(‏كذلك في التوراة‏)‏ الكتاب المنزل على موسى عليه السلام- ‏(‏و‏)‏ في ‏(‏الإنجيل‏)‏ الكتاب المنزل على عيسى عليه السلام- ‏(‏صفاتهم‏)‏ التي جعلهم الله عليها ‏(‏معلومة التفصيل‏)‏ كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله عز وجل‏:‏ ‏(‏محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة‏)‏، ‏(‏الفتح 29‏)‏‏.‏

هنا تم الكلام، ثم قال تعالى‏:‏ ‏(‏ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما‏)‏، ‏(‏الفتح 29‏)‏‏.‏ وتقدم قول الأسقف لعمر، وصفة الخلفاء رضي الله عنهم- وغير ذلك‏.‏

‏(‏وذكرهم‏)‏ بالمناقب الجمة، والفضائل الكثيرة في سنة المختار محمد صلى الله عليه وسلم عموما وخصوصا من الأحاديث الصحاح والحسان، ‏(‏قد سار‏)‏ انتشر وأعلن ‏(‏سير الشمس في الأقطار‏)‏ تمثيلا لشهرة فضائلهم ووضوحها لا تحصيها الأسفار الكبار‏.‏

وفي الصحيح، عن أبي بردة، عن أبيه رضي الله عنه قال‏:‏ صليت المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا‏:‏ لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء‏.‏ قال‏:‏ فجلسنا فخرج علينا، فقال‏:‏ ما زلتم ههنا‏؟‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، صلينا المغرب، ثم قلنا‏:‏ نجلس حتى نصلي معك العشاء‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ أحسنتم ‏"‏، أو ‏"‏ أصبتم ‏"‏ قال‏:‏ فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال‏:‏ النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون‏.‏

وفيه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال لهم‏:‏ فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيقتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم‏:‏ فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم‏:‏ هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيفتح لهم‏.‏

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير‏؟‏ قال‏:‏ أقراني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، والله أعلم أذكر الثالث أم لا، ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا‏.‏

وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏.‏ قال عمران‏:‏ فلا أدري، أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا‏؟‏ ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن‏.‏ زاد في رواية‏:‏ ويحلفون ولا يستحلفون‏.‏

وعن عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير‏؟‏ قال‏:‏ القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه‏.‏

وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال‏:‏ كان بين خالد بن الوليد، وبين عبدالرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه‏.‏

وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه في قصة كتاب حاطب مع الضعينة، وفيه فقال عمر‏:‏ إنه قد خان الله ورسوله، فدعني فلأضرب عنقه، فقال‏:‏ أليس من أهل بدر‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة‏.‏ أو‏:‏ فقد غفرت لكم‏.‏ فدمعت عينا عمر رضي الله عنه وقال‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال‏:‏ حدثني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر بضعة عشر وثلاثمائة، قال البراء‏:‏ لا، والله ما جاوز معه النهر إلا مؤمن‏.‏

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ‏(‏إنا فتحنا لك فتحا مبينا‏)‏، ‏(‏الفتح 5‏)‏ قال‏:‏ الحديبية، قال أصحابه‏:‏ هنيئا مريئا، فما لنا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار‏)‏، ‏(‏الفتح 5‏)‏، وكل هذا في الصحيح‏.‏

وروى الترمذي، عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد وردت أحاديث في فضائل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم- منها عامة، ومنها خاص بالمهاجرين، ومنها خاص بالأنصار، ومنها خاص الآحاد فردا فردا، ومنها القطع لأحدهم بالجنة مطلقا، ومنها القطع لبعضهم بمجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، ليس هذا موضع بسطها‏.‏

إجماع أهل السنة على وجوب السكوت عما كان بين الصحابة رضي الله عنهم

ثم السكوت واجب عما جرى *** بينهم من فعل ما قد قدرا

فكلهم مجتهد مثاب *** وخطؤهم يغفره الوهاب

أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم- بعد قتل عثمان رضي الله عنه والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة، والاستغفار للقتلى من الطرفين، والترحم عليهم، وحفظ فضائل الصحابة، والاعتراف لهم بسوابقهم، ونشر مناقبهم عملا بقول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان‏)‏، ‏(‏الحشر 10‏)‏ الآية‏.‏

واعتقاد أن الكل منهم مجتهد، إن أصاب فله أجران‏:‏ أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد، والخطأ مغفور، ولا نقول إنهم معصومون بل مجتهدون، إما مصيبون، وإما مخطئون لم يتعمدوا الخطأ في ذلك‏.‏

وما روى من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص منه، وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون‏.‏ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معتقد أهل السنة‏:‏ وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم‏.‏

وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهبا من بعدهم، ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب، فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنة تمحوه أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعتة، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور، ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل، علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمهم على الله عز وجل‏.‏

وقال القاضي عياض في ذكر الصحابة رضي الله عنه وفضائلهم‏:‏ وأما الحروب التي جرت، فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها، وكلهم عدول رضي الله عنهم- ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحدا منهم عن العدالة؛ لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الإجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم‏.‏

واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم، وصاروا ثلاثة أقسام‏:‏

قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه، ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء، ظهر لهم بالإجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، فكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم؛ لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه، فكلهم معذورون، رضي الله عنهم‏.‏

ولهذا اتفق أهل الحق، ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين، وكلام الأئمة في هذا الباب يطول، وما أحسن ما قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقد سئل عن الفتن أيام الصحابة، فقال تاليا قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 134‏)‏‏.‏

خاتمة في وجوب التمسك بالكتاب والسنة، والرجوع عند الاختلاف إليهما، فما خالفهما فهو رد

شرط قبول السعي أن يجتمعا *** فيه إصابة وإخلاص معا

لله رب العرش لا سواه *** موافق الشرع الذي ارتضاه

‏(‏شرط‏)‏ في ‏(‏قبول‏)‏ الله تعالى- ‏(‏السعي‏)‏ أي العمل من العبد، وخبر المبتدأ ‏(‏أن يجتمعا‏)‏، الألف للاطلاق ‏(‏فيه‏)‏ أي في السعي شيئان‏:‏ أحدهما إصابة ضد الخطأ، والثاني إخلاص ضد الشرك، ‏(‏معا‏)‏ أي لم يفترقا، وتفسيره في البيت الذي بعده، فتفسير الإخلاص كون العمل ‏(‏لله رب العرش‏)‏ خالصا لا شرك فيه لـ ‏(‏سواه‏)‏، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وتفسير الإصابة كونه ‏(‏موافق الشرع‏)‏ الثابت عن الله ‏(‏الذي ارتضاه‏)‏ الله تعالى لعباده دينا، وأرسل به رسله إليهم، وأنزل به كتبه عليهم، ولم يقبل من أحد دينا سواه، ولا أحسن دينا ممن التزمه، وقد سفه نفسه من رغب عنه، وقد جمع بين هذين الشرطين في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏)‏، ‏(‏الكهف 110‏)‏، وقد تقدم الكلام على الإخلاص مستوفى في بابه‏.‏

وأما مسألة التمسك بالكتاب والسنة، فنذكر فيه فصولا‏:‏

الفصل الأول‏:‏ في ذكر وجوب طاعة الله ورسوله

قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون‏)‏، ‏(‏آل عمران 132‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين‏)‏، ‏(‏آل عمران 32‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما‏)‏، ‏(‏النساء 65‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما‏)‏، ‏(‏النساء 69‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا‏)‏، ‏(‏النساء 80‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا‏)‏، ‏(‏النساء 59‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يطع الله والرسول يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين‏)‏، ‏(‏النساء 13- 14‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما‏)‏، ‏(‏النساء 105‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏)‏، ‏(‏المائدة 92‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين‏)‏، ‏(‏الأنفال 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون‏)‏، ‏(‏الأنفال 24‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين‏)‏، ‏(‏الأنفال 46‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون‏)‏، ‏(‏النور 51- 52‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون‏)‏، ‏(‏النور 56‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏)‏، ‏(‏النور 54‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‏)‏، ‏(‏النور 63‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم‏)‏، ‏(‏النور 62‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما‏)‏، ‏(‏الأحزاب 71‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا‏)‏، ‏(‏الأحزاب 36‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا‏)‏، ‏(‏الأحزاب 21‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم‏)‏، ‏(‏محمد 33‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون‏)‏، ‏(‏الأنفال 20‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما‏)‏، ‏(‏الفتح 17‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب‏)‏، ‏(‏الحشر 7‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين‏)‏، ‏(‏التغابن 12‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور‏)‏، ‏(‏الطلاق 11‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزوره وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا‏)‏، ‏(‏الفتح 8‏)‏، وغير ذلك من الآيات‏.‏

وقال البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ومن يأبى‏؟‏ قال‏:‏ من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى‏.‏

حدثنا محمد بن عبادة، أخبرنا يزيد، حدثنا سليم بن حيان، وأثنى عليه، حدثنا سعيد بن ميناء، حدثنا أو سمعت جابر بن عبد الله يقول‏:‏ جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو نائم‏.‏ الحديث تقدم، وفيه‏:‏ فمن أطاع محمدا، فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا، فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس‏.‏

وله عن حذيفة قال‏:‏ يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن أخذتم يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا‏.‏

وله عن أبي موسى رحمه الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما، فقال‏:‏ يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم، واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق‏.‏

وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم‏.‏

وفيه عن عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله، ثم قال‏:‏ ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية‏.‏

وفيه عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون‏.‏

وعن معاوية رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من يرد الله به خيرا، يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله- عزوجل، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله، تبارك وتعالى‏.‏

وفي المسند، وابن ماجه، وغيرهما قال‏:‏ كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا هكذا أمامه، فقال‏:‏ هذا سبيل الله عز وجل، وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله، قال‏:‏ هذه سبيل الشيطان، ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏(‏وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون‏)‏، ‏(‏الأنعام 153‏)‏‏.‏

وفي المسند، والترمذي وحسنه، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول‏:‏ يا أيها الناس، ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال‏:‏ ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته، تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحه محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم‏.‏

وفي جامع الترمذي، عن العرباض بن سارية قال‏:‏ وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل‏:‏ إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم ير اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ ورواه أحمد، وزاد‏:‏ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعه ضلالة‏.‏ وفي رواية‏:‏ قلنا يا رسول الله، إن هذه لموعظة، فماذا تعهد إلينا‏؟‏ قال‏:‏ قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك‏.‏

وفي رواية‏:‏ فعليكم بما عرفتم من سنتي‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل‏.‏

ولأحمد، عن مجاهد بإسناد جيد قال‏:‏ كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر بمكان، فحاد عنه فسئل لم فعلت‏؟‏ فقال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت‏.‏

وله عن الحسن بن جابر قال‏:‏ سمعت المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه يقول‏:‏ حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء، ثم قال‏:‏ يوشك أحدكم أن يكذبني، وهو متكئ على أريكته، يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدناه فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله‏.‏

وعنه أيضا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعان على أريكته، يقول‏:‏ عليكم القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد إلا أن يستغني صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإذا لم يقروهم، فعليهم أن يعقبوهم بمثل قراهم‏.‏

ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وإسناد أحمد جيد، وسكت عليه أبو داود، وحسنه الترمذي، ولأحمد، عن أبي هريرة نحوه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيما أشرنا إليه كفاية‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في تحريم القول على الله بلا علم، وتحريم الافتاء في دين الله بما يخالف النصوص

قال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏)‏، ‏(‏الأعراف 33‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا‏)‏، ‏(‏الأحزاب 36‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا‏)‏، ‏(‏الإسراء 36‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم‏)‏، ‏(‏الحجرات 1‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما‏)‏، ‏(‏النساء 105‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏اتبعوا ما أنزل من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون‏)‏، ‏(‏الأعراف 3‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين‏)‏، ‏(‏الأنعام 57‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا‏)‏، ‏(‏الكهف 26‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏)‏، ‏(‏المائدة 44‏)‏، ‏(‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏)‏، ‏(‏المائدة 47‏)‏، ‏(‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏)‏، ‏(‏المائدة 47‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين‏)‏، ‏(‏الأنعام 156‏)‏ الآيات، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون‏)‏، ‏(‏الزخرف 44‏)‏‏.‏

وفي الصحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم‏:‏ سلوه عن الروح، وقال بعضهم‏:‏ لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال‏:‏ ‏(‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏)‏، ‏(‏الإسراء 85‏)‏‏.‏

وفيه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة المتلاعنين لما جاءت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولهما شأن‏.‏

وفيه عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ مرضت فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فأتاني، وقد أغمى علي، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صب وضوءه علي، فأفقت فقلت‏:‏ يا رسول الله، كيف أقضي في مالي‏؟‏ كيف أصنع في مالي‏؟‏ قال‏:‏ فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث‏.‏

وعلى هذا ترجم البخاري- رحمه الله تعالى‏:‏ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل مما لم يزل عليه الوحي، فيقول‏:‏ لا أدري، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقبل برأي ولا بقياس؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏بما أراك الله‏)‏ الآية، وترجم- رحمه الله تعالى‏:‏ باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏)‏، ‏(‏الإسراء 36‏)‏، ثم ذكر فيه حديث عبد الله بن عمر، وقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الله تعالى لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم، فيضلون ويضلون‏.‏

وحديث سهل بن حنيف قال‏:‏ يا أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته‏.‏ الخبر‏.‏

وفي خطبه صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى أن يقول‏:‏ أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏.‏

وروى أبو داود، عن يزيد بن عميرة، وكان من أصحاب معاذ بن جبل قال‏:‏ كان لا يجلس مجلسا للذكر حين يجلس إلا قال‏:‏ الله حكم قسط، هلك المرتابون‏.‏ فقال معاذ بن جبل يوما‏:‏ إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل يقول‏:‏ ما للناس لا يتبعوني، وقد قرأت القرآن‏؟‏ ما هم بمتبعي حتى أبدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق‏.‏ قال قلت لمعاذ‏:‏ ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق‏؟‏ قال‏:‏ بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا‏.‏

وله من طرق عن سفيان الثوري قال‏:‏ كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز سأله عن القدر، فكتب‏:‏ أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى ما هو دليل عليها أو عبرة فيها؛ فإن السنة إنما سنها من قد علم، أما في خلاف من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقعوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقوكم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم، ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم من دونهم فجفوا، وطمح عليهم أقواما فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم‏.‏ كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر، فعلى الخبير بإذن الله وقعت، ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا، ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر‏.‏ لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء، لا يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة‏.‏ ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منهم المسلمون، فتكلموا به في حياته، وبعد وفاته يقينا وتسليما لربهم، وتضعيفا لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض به قدره، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم لم أنزل الله آية كذا، ولم قال كذا‏؟‏ لقد قرءوا ما قرأتم، وعلموا من تأويل ما جهلتهم، وقالوا بعد ذلك كله‏:‏ بكتاب وقدر، وكتبت الشقاوة، وما يقدر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا، ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا‏.‏

والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في عظم إثم من أحدث في الدين ما ليس منه

قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون‏)‏، ‏(‏النحل 25‏)‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏ليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون‏)‏، ‏(‏العنكبوت 13‏)‏‏.‏

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل‏.‏

ولأحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من سن سنة ضلال فاتبع عليها، كان عليه مثل أوزارهم من غير أن ينقص من مثل أوزارهم شيء، ومن سن سنة هدى فاتبع عليها، كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء‏.‏

ولأحمد بإسناد جيد عن حبيب بن عبيد الرحبي عن غضيف بن الحارث الثمالي رضي الله عنه قال‏:‏ بعث إلي عبد الملك بن مروان، فقال‏:‏ يا أبا أسماء، إنا قد جمعنا الناس على أمرين‏.‏ قال‏:‏ وما هما‏؟‏ قال‏:‏ ترفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر‏.‏ فقال‏:‏ أما إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما‏.‏ قال‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة‏.‏

وفي حديث الحوض عن جماعة من الصحابة، تقدم أكثرهم قال‏:‏ ليردن علي الحوض رجال ممن صحبني ورآني، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم، اختلجوا دوني، فلأقولن‏:‏ ربي أصحابي، فيقال‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك‏.‏ وفي بعضها زيادة‏:‏ فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي‏.‏

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏(‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب‏)‏، ‏(‏آل عمران 7‏)‏، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم‏.‏

وعن جرير بن عبد الله قال‏:‏ جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة، فأبطأوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه، قال‏:‏ ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء‏.‏

ورواه الترمذي بلفظ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من سن سنة خير فاتبع عليها، فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة شر فاتبع عليها، كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا‏.‏

وله عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث‏:‏ اعلم‏.‏ قال‏:‏ أعلم يا رسول الله، قال‏:‏ إنه من أحيا سنة من سنتي، قد أميتت بعدي، كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏

والأحاديث في هذا كثيرة، وفي هذا كفاية‏.‏

الفصل الرابع والخامس ما في هذه الأبيات

وكل ما خالف للوحيين *** فإنه رد بغير مين

وكل ما فيه الخلاف نصبا *** فرده إليهما قد وجبا

فالدين إنما أتى بالنقل *** ليس بالأوهام وحدس العقل‏.‏

‏(‏وكل ما‏)‏ أي أمر كان ‏(‏خالف للوحيين‏)‏ نصوص الكتاب والسنة؛ لأن السنة وحي ثان أيضا، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى‏)‏، ‏(‏النجم 2- 5‏)‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أوتيت القرآن ومثله معه، الحديث‏.‏

‏(‏فإنه‏)‏ أي ذلك الأمر المخالف ‏(‏رد‏)‏ أي مردود على مبتدعه من كان ‏(‏بغير مين‏)‏ بدون شك، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه‏)‏، ‏(‏آل عمران 85‏)‏، ودين الإسلام هو الذي أنزل الله تعالى به كتابه على رسوله؛ ليبينه للناس، فتلاه الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته، وبينه لهم بسنته من أقواله وأفعاله، وتقريراته صلى الله عليه وسلم، وتقدم في الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه‏)‏، ‏(‏البقرة 130‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا‏)‏، ‏(‏النساء 125‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها‏)‏، ‏(‏آل عمران 83‏)‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏اتبعوا ما أنزل إليكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون‏)‏، ‏(‏الأعراف 3‏)‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون‏)‏، ‏(‏الجاثية 18‏)‏ الآيات، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون‏)‏، ‏(‏العنكبوت 51‏)‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏)‏، ‏(‏التوبة 31‏)‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏)‏، ‏(‏الشورى 21‏)‏، الآية، وغير ذلك من الآيات‏.‏

وفي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏.‏

وفي رواية مسلم‏:‏ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك‏.‏

وفي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة‏.‏

وفيها عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا، فقال‏:‏ ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة سفترق على ثلاث وسبعين‏:‏ ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة‏.‏ زاد في رواية‏:‏ وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب لصاحبه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله‏.‏

وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر وذراعا بذراع‏.‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله، كفارس والروم‏؟‏ فقال‏:‏ ومن الناس إلا أولئك‏؟‏

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموه‏.‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ فمن‏؟‏ والأحاديث في هذا الباب كثيرة‏.‏

البدع

ثم اعلم أن البدع كلها مردودة، ليس منها شيء مقبولا، وكلها قبيحة، ليس فيها حسن، وكلها ضلال ليس فيها هدى، وكلها أوزار ليس فيها أجر، وكلها باطل ليس فيها حق‏.‏

ومعنى البدعة‏:‏ هو شرع ما لم يأذن الله به، ولم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم البدعة بقوله‏:‏ كل عمل ليس عليه أمرنا‏.‏

ووصف الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بقوله‏:‏ هم الجماعة، وفي رواية‏:‏ هم من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي‏.‏

ثم البدع بحسب إخلالها بالدين قسمان‏:‏

مكفرة لمنتحلها، وغير مكفرة‏.‏

فضابط البدعة المكفرة‏:‏ من أنكر أمرا مجمعا عليه متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة من جحود مفروض، أو فرض ما لم يفرض، أو إحلال محرم، أو تحريم حلال، أو اعتقاد ما ينزه الله ورسوله وكتابه عنه من نفي أو إثبات؛ لأن ذلك تكذيب بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله صلى الله عليهم وسلم كبدعة الجهمية في إنكار صفات الله والقول بخلق القرآن، أو خلق أي صفة من صفات الله، وإنكار أن يكون الله- تعالى- اتخذ إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما وغير ذلك، وكبدعة القدرية في إنكار علم الله عز وجل وأفعاله، وقضائه وقدره، وكبدعة المجسمة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه، وغير ذلك من الأهواء‏.‏

ولكن هؤلاء منهم من علم أن عين قصده هدم قواعد الدين، وتشكيك أهله فيه، فهذا مقطوع بكفره، بل هو أجنبي عن الدين من أعدى عدو له، وآخرون مغرورن ملبس عليهم، فهؤلاء إنما يحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم وإلزامهم بها‏.‏

والقسم الثاني من البدع التي ليست بمكفرة‏:‏ وهي ما لم يلزم منه تكذيب بالكتاب ولا بشيء مما أرسل الله به رسله، كبدع المروانية التي أنكرها عليهم فضلاء الصحابة، ولم يقروهم عليها، ولم يكفروهم بشيء منها، ولم ينزعوا يدا من بيعتهم لأجلها، كتأخيرهم بعض الصلوات إلى أواخر أوقاتها، وتقديمهم الخطبة قبل صلاة العيد، وجلوسهم في نفس الخطبة في الجمعة وغيرها، وسبهم كبار الصحابة على المنابر، ونحو ذلك مما لم يكن منهم على اعتقاد شرعيته، بل بنوع تأويل، وشهوات نفسانية وأغراض دنيوية‏.‏

كما روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن أبي عمران الجوني قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول‏:‏ ما أعرف شيئا اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال قلنا‏:‏ فأين الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ أولم تصنعوا في الصلاة ما قد علمتم‏؟‏

وله عن ثابت البناني بإسناد نير قال‏:‏ قال أنس بن مالك رضي الله عنه‏:‏ ما أعرف فيكم اليوم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس قولكم‏:‏ لا إله إلا الله، قال قلت‏:‏ يا أبا حمزة الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ قد صليت حين تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى في المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف‏.‏ قال أبو سعيد‏:‏ فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة في الأضحى أو الفطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له‏:‏ غيرتم والله، فقال‏:‏ يا أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت‏:‏ ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال‏:‏ إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة‏.‏

وفي رواية مسلم‏:‏ فلما رأيت ذلك منه قلت‏:‏ أين الابتداء بالصلاة‏؟‏ فقال‏:‏ يا أبا سعيد، قد ترك ما تعلم، قلت‏:‏ كلا والذي نفسي بيده، لا تأتون بخير مما أعلم ثلاث مرات ثم انصرف‏.‏

وروى أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن أبي سعيد رضي الله عنه أيضا قال‏:‏ أخرج مروان المنبر في يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال‏:‏ يا مروان، خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت الخطبة قبل الصلاة، ولم يكن يبدأ بها‏.‏ فقال أبو سعيد الخدري‏:‏ من هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ فلان بن فلان، فقال‏:‏ أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏.‏

قلت‏:‏ والمرفوع من قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، ولعل تغير هذا الرجل على مروان كان تارة أخرى في غير المرة التي غير فيها أبو سعيد بيده ولسانه؛ لأن تغيير أبي سعيد كان عند أول ما ابتدع ذلك ابتداء، والله أعلم‏.‏

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا، فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة‏.‏

وفيه عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال‏:‏ دخل المسجد، وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا، فقال‏:‏ انظر إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما‏)‏، ‏(‏الجمعة 11‏)‏‏.‏

وفيه عن عمار بن روبية قال‏:‏ رؤي بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال‏:‏ قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة‏.‏

وتقدم في فضائل الصحابة نصيحة سعد بن أبي وقاص، وسهل بن سعد وغيرهم من الصحابة وعظته إياهم عن سب الصحابة‏.‏

وعن عامر بن سعد رأى جماعة عكوفا على رجل، فأدخل رأسه من بين اثنين، فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير، فنهاه عن ذلك، فلم ينته، فقال‏:‏ أدعو عليك، فقال الرجل‏:‏ تتعهدني كأنك نبي، فانصرف سعد، فدخل دار آل فلان فتوضأ، وصلى ركعتين ثم رفع يديه، فقال‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى، وأنه قد أسخطك سبه إياهم، فاجعله اليوم آية وعبرة‏.‏

قال‏:‏ فخرجت بختية نادرة من دار آل فلان، فلا يردها شيء حتى دخلت بين أضعاف الناس، فافترق الناس، فأخذته بين قوائمها، فلم تزل تتخبطه حتى مات، قال‏:‏ فلقد رأيت الناس يستعدون وراء سعد يقولون‏:‏ استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق‏.‏

وعن مصعب نحوه، وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب نحوه‏.‏

وغير ذلك من إنكار الصحابة عليهم، وكان الصحابة رضي الله عنه لا يخافون في الله لومة لائم، رضي الله عنهم وأرضاهم آمين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏أقسام البدع‏]‏

ثم تنقسم البدع بحسب ما تقع فيه إلى‏:‏

بدعة في العبادات‏.‏

وبدعة في المعاملات‏.‏

فالبدع في العبادات قسمان أيضا‏:‏

الأول‏:‏ التعبد بما لم يأذن الله تعالى أن يعبد به البتة، كتعبد جهلة الصوفية بالآت اللهو والرقص والصفق والغناء، وأنواع المعازف، وغيرها مما هم فيه مضاهئون فعل الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏(‏وما كان صلاتهم عن البيت إلا مكاء وتصدية‏)‏، ‏(‏الأنفال 35‏)‏‏.‏

والثاني‏:‏ التعبد بما أصله مشروع، ولكن وضع في غير موضعه‏:‏ ككشف الرأس مثلا هو في الإحرام عبادة مشروعة، فإذا فعله غير المحرم في الصوم، أو في الصلاة، أو غيرها بنية التعبد، كان بدعة محرمة، وكذلك فعل سائر العبادات المشروعة في غير ما شرعت فيه، كصلوات النفل في أوقات النهي، وكصيام الشك والعيدين، ونحو ذلك، وفي الصحيح عن أنس في الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يمشي بين ابنيه، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه‏.‏

وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه، فقطعها النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم أمره أن يقوده بيده‏.‏

وفيه عنه رضي الله عنه قال‏:‏ بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا‏:‏ أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مره، فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه‏.‏ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام الصوم الذي هو عبادة مشروعة وضعت في محلها، وإلغاء قيامة وسكوته؛ لكونه وإن كان عبادة في بعض الأحوال، لكن ليس هذا محله، وأمره بالاستظلال؛ لكون عدمه ليس بعبادة مشروعة‏.‏

وفيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سئل عن رجل نذر ألا يأتي عليه يوم إلا صام، فوافق يوم الأضحى أو الفطر، فقال‏:‏ ‏(‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏)‏، ‏(‏الأحزاب 21‏)‏، لم يكن يصوم يوم الأضحى والفطر، ولا يرى صيامهما‏.‏

وعن زياد بن جبر قال‏:‏ كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما فسأله رجل، فقال‏:‏ نذرت أن أصوم كل يوم ثلاثاء أو أربعاء ما عشت، فوافقت هذا اليوم يوم النحر، فقال‏:‏ أمر الله بوفاء النذر، ونهينا أن نصوم يوم النحر، فأعاد فأعاد عليه، فقال‏:‏ مثله لا يزيد عليه‏.‏

والمعنى أن النذر قربة من القربات إذا كان مشروعا، كصوم ما لم ينه عنه من الأيام، فإن نذر صوم يوم منهي عنه كان ناذرا معصية لا طاعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا نذر في معصية الله، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ من نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏.‏

وعن عطاء أن ابن عباس رضي الله عنهما أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له‏:‏ إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة‏.‏ قال‏:‏ ذلك ردا لبدعة المروانية في ذلك‏.‏

وفيه عن البراء بن عازب قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ جاء ثلاثة رهط إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا‏:‏ وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم‏:‏ أما أنا، فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر‏:‏ أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر‏:‏ أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أنتم الذين قلتم كذا وكذا‏؟‏ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس من البر الصيام في السفر‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم للذين صاموا بعد أمره بالإفطار‏:‏ أولئك العصاة، أولئك العصاة‏.‏ وغير ذلك من الأحاديث في هذا الباب ما لا يحصى، وهذا مثال يدل على ما بعده‏.‏

ثم البدعة الواقعة في العبادة، تكون مبطلة للعبادة التي تقع فيها لمن صلى الرباعية خمسا، أو الثلاثية أربعا، أو الثنائية ثلاثا، وما شابه ذلك‏.‏

وقد تكون معصية ولا تبطل العمل الذي تقع فيه كالوضوء أربعا أربعا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الوضوء المشروع‏:‏ فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدى وظلم‏.‏ ولم يقل‏:‏ فقد بطل وضوءه، وكذا قراءة القرآن راكعا أو ساجدا منهي عنه شرعا، ولا يبطل الصلاة‏.‏

والبدعة في المعاملات‏:‏ كاشتراط ما ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ جاءت بريرة رضي الله عنها فقالت‏:‏ إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ إن أحب أهلك، أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها، فقالت‏:‏ عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته، فقال‏:‏ خذيها فأعتقيها واشرطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق‏.‏ فقالت عائشة‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ أما بعد، فما بال رجال منكم يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله حق، وشرط الله أوثق‏.‏ ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق يا فلان ولي الولاء، إنما الولاء لمن أعتق‏.‏ وأمثاله كثيرة‏.‏

كل ما وقع فيه الخلاف يحتكم فيه إلى الكتاب والسنة

‏(‏وكل ما فيه الخلاف‏)‏ بين الصحابة فمن بعدهم ‏(‏نصب‏)‏ من فروع العبادات والمعاملات ‏(‏فرده‏)‏ أي المختلف فيه من ذلك ‏(‏إليهما‏)‏ أي إلى الكتاب والسنة، ‏(‏قد وجب‏)‏ على المعتبر، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ذلك خير وأحسن تأويلا‏)‏، ‏(‏النساء 59‏)‏، والرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه، وإلى الرسول إلى سنته بعد انقطاع الوحي، فما وافقهما قبل وما خالفهما رد على قائله كائنا من كان، ‏(‏فالدين‏)‏ الإسلام وشرائعه ‏(‏إنما أتى‏)‏ حصل بيانه ‏(‏بالنقل‏)‏، عن الله ورسوله ‏(‏ليس‏)‏ هو ‏(‏بالأوهام‏)‏ من آحاد الأمة ‏(‏وحدس‏)‏ تخمين ‏(‏العقل‏)‏، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أرجح الخلائق عقلا، وأولاهم بكل صواب‏:‏ ‏(‏إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله‏)‏، ‏(‏النساء 105‏)‏ الآيات، ولم يقل بما رأيت‏.‏

ويقول الله تعالى له‏:‏ ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏)‏، ‏(‏الإسراء 36‏)‏، وقال تعالى له‏:‏ ‏(‏فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على هدى مستقيم‏)‏، ‏(‏الزخرف 43‏)‏، وأمثال هذا من الآيات ما لا يحصى‏.‏

وتقدم في الأحاديث جملة واحدة، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول في التشريع إلا عن الله عز وجل، ولهذا لم يجب اليهود في سؤالهم إياه عن الروح، ولا جابرا في سؤاله عن ميراث الكلالة، والمجادلة في سؤالها عن حكم الظهار حتى نزل عليه القرآن بتفصيل ذلك وبيانه، وأمثال هذا كثيرة‏:‏ ‏(‏ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا‏)‏، ‏(‏الفرقان 33‏)‏، وفي قصة عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قال‏:‏ فعملت لذلك أعمالا‏.‏

وقال عثمان بن حنيف‏:‏ اتهموا الرأي في دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفه‏.‏

وأفتى عمر السائل الثقفي في المرأة التي حاضت بعد أن زارت البيت يوم النحر أن لا تنفر، فقال له الثقفي‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به، فقام إليه عمر يضربه بالدرة، ويقول له‏:‏ لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

وكان ابن مسعود أفتى بأشياء فأخبره بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلافه، فانطلق عبد الله إلى الذين أفتاهم فأخبرهم أنه ليس كذلك‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ لا أرى لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار في هذا عن الصحابة والتابعين لا تحصى‏.‏

وقال الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس‏.‏

وصح عنه أنه قال‏:‏ لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال رحمه الله‏:‏ إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت‏.‏ وفي لفظ‏:‏ فاضربوا بقولي عرض الحائط‏.‏

وقال رحمه الله‏:‏ إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي، فخذوا بالسنة، ودعوا قولي فإني أقول بها‏.‏

وقال رحمه الله تعالى‏:‏ كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي‏.‏

وقال رحمه الله تعالى وروى حديثا فقال له رجل‏:‏ تأخذ بهذا يا أبا عبد الله‏؟‏ فقال‏:‏ متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا، فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب، وأشار بيده على رءوسهم، وسأله رجل عن مسألة فأفتاه، وقال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل‏:‏ أتقول بهذا‏؟‏ قال‏:‏ أرأيت في وسطي زنارا‏؟‏ أتراني خرجت من الكنيسة‏؟‏ أقول‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لي‏:‏ أقول بهذا‏!‏ أروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أقول به‏!‏ وفي لفظ‏:‏ فارتعد الشافعي رحمه الله واصفر لونه وقال‏:‏ ويحك، أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم أقل به، نعم على الرأس والعينين، وقال رحمه الله تعالى‏:‏ ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، وأصلت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو قولي، وجعل يردد هذا الكلام‏.‏

وقال الشافعي رحمه الله أيضا‏:‏ لم أسمع أحدا نسبته العامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه، فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما سواهما تبع لهما، وإن فرض الله علينا، وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه‏.‏

وقال الربيع‏:‏ سألت الشافعي عن الطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعد الإحرام، وبعد رمي الجمرة والحلاق وقبل الإفاضة، فقال‏:‏ جائز، وأحبه، ولا أكرهه؛ لثبوت السنة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم والأخبار عن غير واحد من الصحابة، فقلت‏:‏ وما حجتك فيه‏؟‏ فذكر الأخبار فيه والآثار، ثم قال‏:‏ أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم قال‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ من رمى الجمرة، فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب‏.‏ فقال سالم‏:‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي‏.‏ وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع‏.‏

قال‏:‏ وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم، فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها وترك ذلك لغير شيء، بل لرأي أنفسكم، فالعلم إذا إليكم تأتون منه ما شئتم، وتدعون ما شئتم، وقال رحمه الله تعالى‏:‏ من تبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقته، ومن خلط فتركها خالفته، صاحبي الذي لا أفارق الملازم الثابت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن بعد، والذي أفارق هو من لم يقل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قرب‏.‏

وقال رحمه الله تعالى في خطبة كتاب ‏(‏إبطال الاستحسان‏)‏‏:‏ الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله، وكما ينبغي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، بعثه بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فهدى بكتابه ثم على لسان رسوله، ثم أنعم عليه، وأقام الحجة على خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وقال‏:‏ ‏(‏ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة‏)‏، ‏(‏النحل 89‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏)‏، ‏(‏النحل 44‏)‏، وفرض عليهم اتباع ما أنزل إليهم وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا‏)‏، ‏(‏الأحزاب 36‏)‏، فاعلم أن معصيته في ترك أمره وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل لهم إلا اتباعه، وكذلك قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله‏)‏، ‏(‏الشورى‏:‏ 52- 53‏)‏ مع ما علم نبيه، ثم فرض اتباع كتابه فقال‏:‏ ‏(‏فاستمسك بالذي أوحي إليك‏)‏، ‏(‏الزخرف‏:‏ 43‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم‏)‏، ‏(‏المائدة 49‏)‏، وأعلمهم أنه كمل لهم دينهم فقال عز وجل‏:‏ ‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏)‏، ‏(‏المائدة 3‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ثم من عليهم بما آتاهم من العلم، فأمرهم بالاقتصار عليه، وأن لا يقولوا غيره إلا ما علمهم، فقال لنبيه‏:‏ ‏(‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏)‏، ‏(‏الشورى 52‏)‏، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏)‏، ‏(‏الأحقاف 9‏)‏، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله‏)‏، ‏(‏الكهف 23‏)‏، ثم أنزل على نبيه أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ورضوانه عنه، وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة وسيد الخلائق، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏)‏، ‏(‏الإسراء 36‏)‏، وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل في امرأة رجل رماها بالزنا، فقال له يرجع، فأوحى الله إليه آية اللعان، فلاعن بينهما، وقال‏:‏ ‏(‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله‏)‏، ‏(‏النمل 65‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام‏)‏، ‏(‏لقمان 34‏)‏ الآية، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها‏)‏، ‏(‏النازعات 42‏)‏، فحجب عن نبيه علم الساعة، وكان من عادى ملائكة الله المقربين وأنبيائه المصطفين من عباد الله، أقصر علما من ملائكته وأنبيائه، والله عز وجل فرض على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم من الأمر شيئا‏.‏

وكلامه- رحمه الله تعالى في هذا الباب كثير مشهور مذكور‏.‏

وهذا الذي قاله من تحكيم نصوص الكتاب والسنة، وطرح ما خالفهما هو الذي نطقا به، وصرحت به نصوصهما، وأجمع عليه الصحابة والتابعون، فمن بعدهم، كما حكي إجماعهم هو وغيره، وكما هو المشهور من سيرتهم في الأقوال والأفعال، ونصوصهم في هذا الباب ملء الدنيا، وتصانيفهم في ذلك قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، ولو رأوا ما عليه مقلدوهم في هذا الوقت لتبرءوا منهم، ومقتوهم أشد المقت؛ فإنهم ليسوا على ما كانوا عليه، ولا اهتدوا إلى ما أرشدهم إليه، بل اختلفوا اختلافا شديدا، وافترقوا افتراقا بعيدا، وكل منهم يحصر الحق في إمامه، ويرى ما خالفه باطلا، ويرى سائر أهل العلم مفضولين وإمامه فاضلا، وإذا خالف مذهبه ضرب له الأمثال، وتكلف له التأويل المحال، ويقابله الآخر بمثل ذلك، فهم بين راد ومردود، وحاسد ومحسود، وكان فيهم شبه من الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏(‏من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون‏)‏، ‏(‏الروم 32‏)‏، ولم يعلم هؤلاء المساكين أن سلفهم الصالح الذين يزعمون الاقتداء بهم كانوا أبعد من هذه الصفة بعد ما بين المشارق والمغارب، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم- أجل شأنا، وأكمل إيمانا من أن يقدموا بين يدي الله ورسوله، بل هم تبع له في أوامره ونواهيه، ولنصوص الشرع أعظم عندهم من أن يقدموا عليها آراء الرجال، وهي أجل قدرا في صدروهم من أن تضرب لها الأمثال، وأعلى منزلة من أن تدفع بالأقيسة والتأويل المحال، وإنما المقتدي بهم على الحقيقة من اقتفى أثرهم، واتبع سيرهم وحفظ وصيتهم، وأحيا سنتهم في طلب الحق، وأخذه أين وجده، والوقوف عند كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما بلغته، فكما كان اجتهاد السلف- رحمهم الله- في جميع الأدلة، واستبناط الأحكام منها، فالواجب عند الخلاف تتبع تلك الأدلة والاستنباطات، والأخذ بالأصح منها مع من كان، وبيد من وجد، فإن الحق واحد لا يجزئه الاختلاف، وكل واحد من أولئك الأئمة يدأب في طلبه جادا مجتهدا، إن أصابه فله أجران، وإن أخطأه فله أجر، والخطأ مغفور، وهذه أقوالهم مدونة في كتبهم، كلها تذم الرأي في الدين، وتحث من بعدهم على اقتفاء أثرهم في طلب الحق أين ما كان، ولم يدع أحد منهم إلى تقليده، ولم يكن أحد منهم معصوما، ولا ادعى في ذلك، ولا قال‏:‏ إن الحق معي لا يفارقني، فتمسكوا بما أقول وأفعل، ولا كان لأحد منهم التزام قول أحد من آحاد الأمة لا ممن هو مثلهم، ولا من هو أفضل منهم، فضلا عمن هو دونهم، ولم يكن لهم أن يلتزموه فيما خالف النص الذي لم يبلغه أو لم يستحضره، ولو كان ذلك خيرا لسبقونا إليه، بل كان إمام الجميع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين للناس ما نزل إليهم، ويتبعون آثاره من الأفعال والأقوال، والتقريرات يتلقونها من حفاظها من كانوا، وأين كانوا، وبيد من وجدوها، وقفوا عندها، ولم يعدوها إلى غيرها، وكانت طريقتهم في تلقي النصوص أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا‏)‏، ‏(‏النساء‏:‏ 82‏)‏‏.‏

الخاتمة

ثم إلى هنا قد انتهيت *** وتم ما بجمعه عنيت

سميته بسلم الوصول *** إلى سما مباحث الأصول

والحمد لله على انتهائي *** كما حمدت الله في ابتدائي

أسأله مغفرة الذنوب *** جميعها والستر للعيوب

ثم الصلاة والسلام أبدا *** تغشى الرسول المصطفى محمدا

ثم جميع صحبه والآل *** السادة الأمة الأبدال

تدوم سرمدا بلا نفاد *** ما جرت الأقلام بالمداد

ثم الدعا وصية القراء *** جميعهم من غير ما استثناء

أبياتها ‏(‏يسر‏)‏ بعجد الجمل *** تأخيرها ‏(‏الغفران‏)‏ فافهم وادع لي

‏(‏ثم إلى هنا‏)‏ الإشارة إلى آخر الكلام على الاعتصام بالكتاب والسنة، وناسب جعل ذلك هو الخاتمة بكون الآية التي فيها الإشارة إلى ذلك هي من آخر ما نزل، وهي قوله‏:‏ ‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم‏)‏، ‏(‏المائدة 3‏)‏، بل السورة كلها من آخر ما نزل، وروي أنها نزلت جملة، ومن جهة أن الاعتصام بها آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع، ثم في خطبته في غدير خم، ثم كان من آخر ما تكلم به عند خروجه من الدنيا، ‏(‏قد انتهيت‏)‏ أي اقتصرت على هذا القدر، وفيه إن شاء الله تعالى كفاية، ‏(‏وتم‏)‏ أي قضى ‏(‏ما‏)‏ أي الذي ‏(‏بجمعه‏)‏ في نظمي ‏(‏عنيت‏)‏ اهتممت له‏.‏

‏(‏سميته‏)‏ حين تم ‏(‏بسلم‏)‏ أي المرقاة التي يصعد فيها لأجل ‏(‏الوصول إلى سما‏)‏ بتثليث السين ‏(‏مباحث‏)‏ جمع مبحث، وهو ما يحصل به فهم الحكم ‏(‏الأصول‏)‏ جمع أصل، وهو ما يبنى عليه، والمراد بها عند الإطلاق أصول الدين، وهو ما يجب اعتقاده فيهن وهو المراد هنا، وأما إذا أضيفت فهي بحسب المضاف إليه، فأصول الحديث علم الاصطلاح الذي يبحث فيه عن تفاصيل أحوال السند، والمتن وأحكامها، وأصول الفقه، علم يبحث فيه عن الدليل والمدلول، وحال المستدل وغير ذلك، وأصول العربية، والنحو والصرف والمعاني، والبديع كل بحسبه، وتعريفه في فنه‏.‏

وقولنا ‏(‏سما مباحث الأصول‏)‏ وصف له بالسمو، وهو العلو إشارة إلى أنه أعلى العلوم وأهمها وأوجبها وألزمها؛ لأنه معرفة ما خلق الله له الخلق والدنيا والآخرة، والجنة والنار، وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وفيه وله شرع الجهاد، وعليه يرتب الجزاء من الثواب والعقاب، وغير ذلك، فحقيق بعلم هذا قدره أن يكون هو أول ما يهتم به العبد، وأعظم ما يبذل فيه جهده، وينفق فيه عمره حتى يموت على ذلك، وناسب تسمية الشرح بمعارج القبول؛ لأن العروج هو الصعود والمعارج المصاعد، فكان القارئ في هذا الشرح يصعد في السلم، وأضيفت المعارج إلى القبول لمناسبة الوصول؛ لأن من لم يقبل لم يصل بل يرد أو ينقطع‏.‏

‏(‏والحمد لله على‏)‏ جزيل النعمة التي منها أن قدر ‏(‏انتهائي‏)‏ أي إتمامي المتن المشتمل على معرفة الله تعالى، ودينه، ورسوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏كما حمدت الله في ابتدائي‏)‏، في نظمه كما تقدم، وذلك اقتداء بكلام الله تعالى حيث افتتح ذكر الخلق بالأمر فقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض‏)‏، ‏(‏الأنعام 1‏)‏، وختم ذكرهم فيما ينتهون إليه من الدارين بالحمد فقال‏:‏ ‏(‏وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين‏)‏، ‏(‏يونس 10‏)‏‏.‏

‏(‏أسأله‏)‏ أي أسأل الله ‏(‏مغفرة‏)‏ أي مغفرته تعالى ‏(‏الذنوب‏)‏ ذنوبي وجميع المسلمين، والمغفرة ستر الذنب في الدنيا والآخرة، والعفو عنه، وعدم المؤاخذة به ‏(‏جميعها‏)‏ من صغائر وكبائر، والاستغفار من أعلى أنواع الذكر، ‏(‏والستر‏)‏ منه تعالى ‏(‏للعيوب‏)‏ مني ومن جميع المسلمين‏.‏

‏(‏ثم‏)‏ عطف على الحمد والاستغفار ‏(‏الصلاة والسلام‏)‏ تقدم معناهما ‏(‏تغشى الرسول المصطفى محمدا‏)‏ تغمره من ربه عز وجل ‏(‏ثم‏)‏ تغشى ‏(‏جميع صحبه الآل‏)‏ تقدم تعريفهما ‏(‏السادة‏)‏ جمع سيد، وهو النقيب المقدم ‏(‏الأئمة‏)‏ المقتدى بهم في الدين ‏(‏الأبدال‏)‏ أو الأولياء لله تعالى، ‏(‏تدوم‏)‏ متواصلة متواترة ‏(‏سرمدا‏)‏ تأكيدا للدوام يفسره ‏(‏بلا نفاد‏)‏ فناء وانقطاع ‏(‏ما جرت الأقلام‏)‏ أي عدد ما جرت به‏.‏

‏(‏ثم الدعا‏)‏ لجامع هذا العقد متنا وشرحا ‏(‏وصية‏)‏ منه يلتمسه من ‏(‏القراء‏)‏ أن يدعو له بخيري الدنيا والآخرة ‏(‏جميعهم‏)‏ شاهدهم وغائبهم معاصريه ومن يأتي بعد عصره ‏(‏من غيره ما‏)‏ صلة أي من غير ‏(‏استثناء‏)‏ إخراج أحد منهم من هذه الوصية‏.‏

‏(‏أبياتها‏)‏ أي عدتها رمز حروف ‏(‏يسر‏)‏، وذلك مائتان وسبعون ‏(‏بعد الجمل‏)‏ الحروف الأبجدية المعروفة عند عامة العرب، وبما زدت فيها أقول ‏(‏أبياتها المقصود‏)‏ أي الذي فيه الأحكام والمسائل ‏(‏يسر فاعقل‏)‏ عني‏.‏

‏(‏تأريخها‏)‏ الذي ألفت فيه رمزه حروف ‏(‏الغفران‏)‏، وذلك ألف وثلاثمائة واثنان وستون، أي عامئذ، نسأل الله الغفران ‏(‏فافهم‏)‏ ما في ذا المعتقد ‏(‏وادع لي‏)‏ بصالح الدعوات في أوقات الإجابة كما أوصيتك، فإن ذلك من أعظم الصدقات، ‏(‏إن الله يجزي المتصدقين‏)‏، ‏(‏يوسف‏:‏ 88‏)‏‏.‏

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، يا بديع السماوات والأرض، برحمتك نستغيث، اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا، فاغفر لنا، وارحمنا إنك الغفور الرحيم، اللهم ما كان في هذا السفر من حق وصواب فبتعليمك وإلهامك، وفضلك وإنعامك، أنت أهله وموليه، فلك الحمد كما أنت أهله، فانفعنا اللهم بتفهمه، وارزقنا العمل بما علمنا، وجميع المسلمين، وما كان فيه من خطأ وزلل، فمن نفسي وشيطاني، فألهمني اللهم رشدي، وأعذني من شر نفسي، وقيض لي من يصلحه ويسد خلله، وأعذني أن أضل عن سواء صراطك المستقيم، أو يضل بخطئي أحد من عبادك واغفر لي، ولوالدي ولجميع المسلمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا ونبينا عبدك ورسولك سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، ورضي الله عن آله وأصحابه وأهل بيته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضله ورحمته ووالدينا وإخواننا وجميع المسلمين آمين‏.‏

وكان الفراغ من تسويده نهار الاثنين، بعد صلاة العصر السادس عشر من جمادى الأولى سنة 1366 للهجرة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم‏.‏